منظومة القيم وأهميتها.. قيمة العدل

25 يونيو 2021 م

قدمنا في المقال السابق أن قيمة "الأمانة" لها رمزية ثمينة في الإنسانية؛ فهي أساس اختصاص الأنبياء والرسل والمصلحين واصطفائهم، وهي محور امتياز جنس الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى؛ فعليها مدار التكليف واختيار فعل الخيرات والأعمال الصالحات.

قدمنا في المقال السابق أن قيمة "الأمانة" لها رمزية ثمينة في الإنسانية؛ فهي أساس اختصاص الأنبياء والرسل والمصلحين واصطفائهم، وهي محور امتياز جنس الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى؛ فعليها مدار التكليف واختيار فعل الخيرات والأعمال الصالحات.
وتلي هذه القيمة الجليلة قيمة "العدل" وهي قيمة رفيعة تدل على حب الحق وإيثاره وتنفيذ ما يقتضيه؛ فالعدل هو إعطاء كل مستحقٍّ ما يعادل حقَّه ويساويه دون نقصان ولا زيادة؛ فهي قيمة أصلية في انتظام أمور البشر وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]؛ فالميزان: مستعار للعدل بين الناس في إعطاء حقوقهم.
والعدل قيمة ذات طبيعة خاصة تحتاج إلى عمل شديد الدقة، وبصر نافذ، وخبرة فاحصة للأعمال والأشياء؛ حتى يكون ميزانًا بين ما هو حق وبين ما ليس بحق، فالمساواة ليست مطلقة، بل تكون في بعض الأحيان معيارًا غير منضبط، وهي مرتبطة بمقاييس الحق؛ حتى تكون عملية الوزن الصحيح للحقوق والأمور المتفاوتة على صورة يظهر فيها وجه العدل، فليس من العدل المساواة بين المحسن والمسيء، أو المساواة بين الذين يعلمون والذي لا يعلمون، أو المساواة بين المقصر الكسول والسابق المجتهد.. وهكذا.
إن الأدلة الشرعيَّة ترشدنا إلى أن قيمة "العدل" خُلُقٌ مكتسبٌ يأتي بالممارسة والتدريب؛ حتى يتمكن في النفوس، ويكون ظاهرة سلوكية إيجابية لأخلاق كريمة تحبها النفوس وتخضع لها وتتواضع عليها كنظام أو قانون باعتباره ظاهرة من ظواهر تطبيق الحق والمساواة بين الناس، ولذا فإننا نجد النصوص الشرعيَّة التي تأمر بالعدل منها ما هو عام، ومن ما هو خاص؛ حيث يزداد التأكيد من خلال هذه النصوص في مجالات بعينها يتسلل فيها الظلم والجور بصورة سريعة، والتي من أهمها: الولايات العامة والخاصة، والشهادة، والقضاء، والكتابة، ومعاملة الزوجة والأولاد وثبوت الأنساب والتجارة والصناعة والإصلاح بين الناس.
وذلك لأن إهمال مراعاة العدل وترك مقتضياته في هذه المجالات الحيوية يُؤدِّي إلى ما يحمل على ارتكاب العدوان والظلم وانتشار دوافع البغض والكراهية، وفي ذلك يوجب الشرع الشريف على الأمة المحمدية عدم اتباع المحاباة والمجاملة والعصبية وكل ما من شأنه مجانبة طريق العدل، حتى ولو كان الأمر ضد النفس والأقارب والوالدين؛ فيقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء: 135].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا أن مخالفة مقتضى العدل سبب أصيل في هلاك الأمم، وذلك في موقف شفاعة أسامة بن زيد رضي الله عنه للمرأة المخزومية التي سرقت: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» ثم قام فخطب، قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ» "متفقٌ عليه".
ولا شك أن هذا الموقف النبوي يمثل بادرة سبق للإسلام في التأكيد على مبدأ سيادة القانون باعتباره مظهرًا من مظاهر "العدل"، والذي اتخذه نظام الدولة الحديثة واحدًا من أهم الركائز الأساسية في بنائها، وأهم مبادئها المستقرة التي يقوم عليها نظام الحكم فيها، من خلال تنظيم الاختصاصات وتقرير التشريعات التي تعمل على تحقيق أبسط معاني هذه القيمة والمتمثل في "إعطاء كل ذي حق حقه".
وجملة هذه المعاني توضح المفهوم الصحيح للعدل، وتؤكد على أهمية منظومة القيم ومكارم الأخلاق؛ باعتبارها من الأصول العامة الضابطة لحركة الناس وضمانة أساسية لاستقرار حياتهم ومسيرتهم نحو العمران والإصلاح والسعادة الدنيوية والأخروية؛ امتثالًا لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58].

****
الجمعة 14 ذي القعدة 1442هــ الموافق 25 يونيو 2021م.
 

 

اقرأ أيضا