منظومة القيم وأهميتها (5) قيمة الرحمة

09 يوليو 2021 م

قدمنا في المقال السابق أن قيمة "العدل" لها رمزية عالية في الإنسانية؛ فهي أصل ٌمن الأصول العامة الضابطة لحركة الناس، وضمانة أساسية لاستقرار حياتهم ومسيرتهم نحو العمران والإصلاح والسعادة الدنيوية والأخروية.

قدمنا في المقال السابق أن قيمة "العدل" لها رمزية عالية في الإنسانية؛ فهي أصل ٌمن الأصول العامة الضابطة لحركة الناس، وضمانة أساسية لاستقرار حياتهم ومسيرتهم نحو العمران والإصلاح والسعادة الدنيوية والأخروية.
وتتعانق قيمة "العدل" الجليلة مع قيمة "الرحمة"؛ التي شأنها كشأن الانفعالات والمشاعر الداخلية التي لا تدرك ولا تعرف إلا بسماتها الظاهرة لا بحقيقة تكوينها؛ فالرحمة هي رقة في القلوب تلامسها المواساة والسلوان عند وجود أو حاجة لدى شخص آخر، وهي منبع كريم يفيض اللين والعطاء والعطف، وتلك صفات يستتبعها: السعادة والسرور عند وجود الخير لدى شخص آخر.
إن قيمة "الرحمة" لها طبيعتها الخاصة؛ فهي مراتب ودرجات لها مستويات متفاوتة، وتتنوع دوائرها اتساعًا وضيقًا، باعتبارها من أصول القيم وكليات الأخلاق العامة، لكونها يتفرع منها جملة كبيرة من القيم، من أهمها: بر الوالدين، وإكرام المرأة واحترامها، وصلة الأرحام، وإكرام الأيتام، والعطف على المحتاجين والضعفاء، والتعاون بين الأصدقاء، والتعاطف بين الجيران وأفراد المجتمع وأبناء الوطن بوجه عام، والشفاعة الحسنة، والصفح عن المخطئ، والعفو عن المسيء، بل تظهر من خلال التشاور مع أهل الشورى؛ التماسًا لصدق نصيحتهم ولين قلوبهم التي قد يؤلمها الإهمال أو الاستبداد بالرأي، وفي ذلك يقول الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]؛ لذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة العمليَّة العليا في التخلق بهذه القيمة الفُضْلَى، فهو الرحمة المهداة، وهذا مما يؤكد ضرورة تحلي الإنسان بهذه القيمة الجليلة.
وقد أرشد الشرع الشريف إلى طرق اكتساب هذه القيمة عالية المكانة ومظاهرها العمليَّة وسماتها السلوكية؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ۞ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: 9-10]، وشكى رجل مرة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قسوة القلب فقال له: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ، فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ» "مسند الإمام أحمد".
وهي مظاهر كاشفة للسلوكيات السلبية التي تؤدي إلى ضمور موجبات قيمة "الرحمة" وتدنيها في النفوس من خلال تسلل القسوة إلى القلوب، بسبب التنافس في الملذات والشهوات، وعدم الاهتمام بالآخرين، ومعايشة أحوالهم خيرًا أو شرًا، وفي ذلك يقول الله تعالى مشيرًا إلى هذه الحقيقة: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد: 16]، ورأى الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقَبَّل السبط الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ» "متفقٌ عليه".
لا شك أنه عندما غابت مظاهر هذه القيمة الجليلة عن الشخصية الإنسانية وعن تعاملاتها وعلاقاتها بالآخرين، وجدنا انتشار القطيعة، واتساع المنازعات بين أبناء الوطن الواحد، والدين الواحد والبيت الواحد، مع قسوة القلوب، وظلم الآخرين، واحتقارهم، وتكفيرهم، وهضم حقوقهم، واستلاب أموالهم دون حق مشروع، وهو طريق متعدد الصور (فهو يكون بالسرقة، أو بالاحتيال، أو بالاحتكار، أو بالمخادعة والغش، أو بالرشوة، أو بالغصب والنهب)، ومن المعلوم أن الإنسان الرحيم لا يمارس مثل هذه الممارسات السيئة التي فيها انحراف عن الحق نتيجة فَقْد الرحمة، مما أدى إلى وقسوة قلب فاعل ذلك فلا يبالي بفعلته بآلام غيره.
إن روح الإنسانية ونقاء شخصية الإنسان وصدق تدينه لن يعود إلا بالتمسك بمنظومة القيم وعلى رأسها قيمة "الرحمة"، فبها تنبعث سمات الحب والعدل والمساواة والتعاون والتكامل والسلم والاستقرار والصدق والتآخي.. وهكذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى أصحاب السنن: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».

****
الجمعة 28 ذي القعدة 1442هــ الموافق 9 يوليو 2021م.
 

 

اقرأ أيضا