الهجرة النبوية ومبادئ التعايش وبناء الإنسان

13 أغسطس 2021 م

اتخذت الأمة المحمدية من حدث الهجرة النبوية منطلقًا لتاريخها الخالد في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، باعتباره نقطة البداية في إحداث نقلة نوعية كبرى لم يشهد المجتمع العربي والإنساني لها مثيلًا على مختلف المجالات الإنسانية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

اتخذت الأمة المحمدية من حدث الهجرة النبوية منطلقًا لتاريخها الخالد في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، باعتباره نقطة البداية في إحداث نقلة نوعية كبرى لم يشهد المجتمع العربي والإنساني لها مثيلًا على مختلف المجالات الإنسانية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
نعم، فإنه بوصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب في يوم الجمعة 12 ربيع الأول للعام الهجري الأول أصبح اسمها "المدينة"، وفيها بشارة لبدء الدعوة الإسلاميَّة صفحة جديدة في سجلها العريق بما مثَّل منعطفًا فاصلًا بين مرحلتين رئيسيتين فيها:
المرحلة المكية التي كان فيها الاهتمام بالمسائل الاعتقادية والأخلاقية، مع تحمل ممارسات وحشية متنوعة ومبتكرة في الأساليب والوسائل، والتي انتهت باتفاق زعماء قريش على إحداث جريمة من ثلاث، جمعها قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30].
والمرحلة المدنية التي فيها الاتحاد والقوة والاستقرار بأبعاده المختلفة والمتكاملة، مع الاهتمام بالتشريع وإرساء مبادئ قيام الدولة وسيادة القانون.
وفي هذه المرحلة توسع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فوضع الإنسان في مقدمة الاهتمامات؛ لأن صناعة الشخصية السوية مدخل أصيل في صناعة الحياة، حيث غيَّر صلى الله عليه وسلم القلوب والعقول، واهتم بتثقيف الإنسان (ذكرًا وأنثى) وتعزيز قدراته، وإثقال ملكاته الفعلية والإبداعية، وترتيب أولوياته، وضبط طريقة تفاعله مع واقع العصر ومعطياته؛ حتى ارتقت في مدارج العفاف والرقي، بدلًا من عبادة الأصنام وتأليه بعض الظواهر الطبيعية وإهدار الكرامة الإنسانية، مع العصبية، والاستغلال، والغش، والغدر، وغلظة الطبع وقسوة التعبير.
وعن ذلك يقول جعفر بن طالب رضي الله عنه في خطبته أمام النجاشي: "أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.." "مسند الإمام أحمد" (1740).
كما عمل على تنظيم علاقة الإنسان بربه؛ من خلال بناء المسجد الذي كان مكان العبادة والمعهد العلمي ومجلس الفتوى والتشريع ورواق القضاء والفصل بين النزاعات، كما وطد العلاقات الاجتماعية ووثق روابطها بين المهاجرين والأنصار تحت عقد "المؤاخاة"، وهو عقد لازم تترتب عليه آثار معنوية ومالية، مع امتزاجه بعواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة والحفاوة، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].
كذلك رسم الأطر العامة لمبادئ التعايش بين الإنسان وأخيه الإنسان المختلف معه في المعتقد والدين بحسب بنود "وثيقة المدينة"، وهي وثيقة ذات أهمية كبرى في التاريخ الإنساني، وتوضيح أمور تنظيمية لمهام الدولة وواجباتها تجاه مواطنيها، مع صياغة منضبطة شاملة ودقيقة لا تدع مجالًا للاختلاف حول مفاهيمها ومجالات تطبيقها مع تقرير مبادئ الحرية والمساواة والتعايش.
وجملة هذه المعاني تؤكد على أن الهجرة النبوية ومواقفها تمثل نسقًا رفيعًا للمعارف الإنسانية في مبادئ التعايش والمحافظة على الأوطان، وتكوين شخصية الإنسان بصورة سوية ملائمة لأصل فطرته النقية، مع ترتيب أولوياته وواقع عصره ومعطياته بما يحقق سعادته الدنيوية والأخروية.
ولذا ينبغي علينا أن نجعل هذا العام الهجري الجديد بدايةً جديدة لمرحلة جيدة في حياتنا، نبدؤها كما بدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة بالتشارك والمؤاخاة وحسن التعايش والتعاون على البر والتقوى والمسير جميعًا على قلب رجل واحد خلف القيادة السياسية وخطتها الطموحة في بناء الإنسان المصري وعمران واستقرار الدولة وتثبيت دعائمها والارتقاء بأبنائها.
نسأل الله تعالى الخير والتوفيق والسداد والرخاء لمصرنا الحبيبه قيادة وشعبًا، وأن يجعل هذا العام الهجري الجديد عام الخير والأمان والاستقرار لبلادنا الغالية أرض الكنانة مصر.


****
الجمعة 5 المحرم 1443هــ الموافق 13 أغسطس 2021م.
 

 

اقرأ أيضا